الشاعرة رابحة القصيبية - أصابع المطر

أصابع المطر

مدونة الأديبة الليبية : نورا إبراهيم

الثلاثاء، 6 أبريل 2010

الشاعرة رابحة القصيبية








 كتب عنها الباحث مكائيل الحبوني هي رابحة بنت صالح إبراهيم عبد المجيد ، أما
( اقصيبي ) فهو لقب في أبيها ، في إحدى المعارك البدوية قال أحد خصومه:

صالح اقصيبي بو شعر في ذانه
                           غارن عليه وقطعن مثنانه

عاشت في ضواحي منطقة البردي ، وتزوَّجت من ابن عمها حسن بو العدليَّة.
حشر أهلها في معتقلات العقيلة فأثَّر ذلك كثيراً في حياتها، أما وفاتها كما يقول الراوي فكانت بعد مجيء المعتقلين من العقيلة أي في حدود سنة 1933.
عاشت في حدود الثمانين عاماً، حياة كانت مليئة بالأحداث جعلت منها تلك العقلية الفذة الجديرة بالدراسة والتحليل لأنها تعكس حياة المجتمع اللِّيبي في فترة تكاد تنعدم فيها المعلومات التي تصوَّر مجتمعنا البدوي بعقليَّته الفطريَّة، هذه هي المرأة اللِّيبيَّة.
لازالت كلماتها، وأشعارها تتردد في أودية البطنان رغم مرور أكثر من سبعين عاماً على رحيلها ، إنها واحدة من مئات الشخصيات النسائية في بلادنا الجديرة بإلقاء الضوء عليها.
مواقف من حياتها: قال الراوي: جاء رجل من جهة الغرب يقصد برقة البيضاء من بنغازي إلي سرت ،وترابها أبيض ،وبرقة الحمراء هو الجبل الأخضر ونواحيه وترابها أحمر ، حيث أنها تعيش في منطقة البطنان وتحديداً ضواحي منطقة البردي، وسأل عن رابحة القصيبية حيث سمع عنها الكثير ويريد أن يجلس معها في (بيت الجلاس) وهو بيت معد لالتقاء الشباب والفتيات تدور فيه حكايات (صوب خليل) وهو تراث ليبي قديم، التقى بها ، سألها الرجل:
( ثلاثين كيلة صوب    في بلادكم بيش يَنْشَرَنْ؟)(1)،
 فأجابته: يا راجل؛ سوق الصوب رخا- خزينة راكب فيه اربا ، كاد السلاف - وكاد غوالينا لولاف - امسوِّسومدهمي(2) في الكاف ، خزين راكب فيه بلا، يا راجل سوق الصوب رخا، فكرر لها مرة ثانية (ثلاثين كيلة صوب في ابلادكم بيش ينشرن)،  فقالت: (خمسطاش(3) مطلوقات، وطناش(4) هن ارمام العقل، واثنين هم أصحاب الصوب، والثالث أمريسيل بينهم،) فخرج الرجل مهزوماً صامتاً لم يتفوَّه بكلمة، وهذا يدل على معرفتها بـ(صوب خليل) ودروبه ، أي تمكُّنها من معرفة الموروث الشعبي جيداً ، وهذا ليس غريباً إذا عرفنا أنها سليلة أسرة شاعرة من قبيلة حبون وهي عمَّة الشاعر المعروف "جعفر الحبُّوني".
وقد ذكر أحد اليهود المقيمين بمنطقة البردي ويدعى (الياهو) بأنها قد أفحمته مرة بجوابها اللاذع حين حل عليها ضيفاً (بالنجع)، قال: " سألتني وأنا راكبٌ جوادي من أين أنت يا فارس؟، فأجبتها: من أخوتك بني إسرائيل، فقالت: أنت من بني إسرائيل الذين آمنوا أم من الذين كفروا؟ فلم أجد لها جواباً، وكأنها تمثلت بالآية الكريمة: "فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة". الآية14 من سورة الصف ، والإجابة تدل على وعي ديني وإلمام ببعض الفقه.
ومن مواقفها التي تدل على الثقة بالنفس والشهامة والمروءة أن أحد المعتقلين بمعتقل العقيلة كان في شبابه قد أعجب بها ولم تبدِ ممانعةً ولكن النصيب لم يكتب بينهما بالزواج، أوصى هذا المعتقل قبل أن يموت أن يبلغوا سلامه إلى رابحة القصيبية وأن يقولوا لها هذه الغناوة:
 (العين في زماناً فات     ذاحت وياما ذوَّحت)
ويموت الرجل  بالمعتقل ، وتمر السنينُ ويخرج الناس ويعودون من العقيلة إلى ديارهم وتستقبلهم رابحة في ضواحي البردي ومنطقة (النعيمة) وتسأل عن الأحياء والأموات وتصلها برقية صاحبها ويخبروها بوفاته ، فتطلق صرخة وسط أبنائها وتأمرهم بإحضار شياه من الغنم وإقامة العزاء عليه، إنها صورة إنسانية رائعة وإكرام ما بعده إكرام، صورة تدل على أنها امرأة نبيلة من أسرة نبيلة، وإن كانت هذه السلوكيات تعكس إلى حد ما روح المرأة في عصرها وهي تدل على مجتمع راقٍ في قيمه وأخلاقه ، لكن صاحبتنا قد تميزت بفكرها ونظرتها للحياة أكثر من نساء جيلها، شخصية واثقة من نفسها.
شاعريتها:

حل الجدب في برقة فهاجرت مع أهلها إلى مصر واستقرت بدمنهور حيث الخضرة والنيل فأعجبت بها ، لكن والدها قرَّر العود ة، وفي وداعها لهذه المدينة قالت:
ما ودَّنا يـا دمنهور          راجـوا بْنا من قبـالك
يا امديَّرة وان لكلال          ويا مربَّيه كل هــالك
قوليلهم شــال م اللِّيل         جميع من علينا يْسالك
هذا الوداع الرقيق وهذا الشعر الحسَّاس يدل على شاعرة مبدعة وشاعرية مرهفة وهي كذلك غير أن شعرها لم يصلنا منه إلاَّ القليل.
عند وصولها إلى منطقة وادي الملاحة حيث يقيم أهلها رأت ابن عمها سعيد فخاطبته بغناوة:
يا سعيد والوديان    مْغير غصب عني جيتكن.
فهذا الشعر الحسَّاس يدل على شاعرة مبدعة وشاعرية مرهفة وهي كذلك غير أن شعرها لم يصلنا منه إلا القليل.
ومما يروى عنها أنها كانت تضع كثيرا من العقود والتمائم في رقبتها مما يجعلها تصدر صوتاً أثناء حركتها  لذلك لقبت (خراخش)، ويقول الراوي الذي عايشها أن شيخ الشهداء عمر المختار أراد الزواج منها ثم عدل عن ذلك عندما علم أنها محرمة عليه بالرضاعة، فكانت النساء تغني مردِّدةً :
( خراخشسابوها فالدار – عليها يبكي بو مختار ).
ومن (القذاذير) الغناوي المأثورة عنها، قالت:
( لا عقَّبوا مكلوب ولا عزوز سودا خارفه)
وذلك في معرض حديثها عن إحدى المعارك القبلية، وكان أحد أبنائها يتردد عليها متخذها وسيلة ليرى محبوبته في (النجع) حتى تزوَّج منها فانقطع عن زيارتها، وكان ابنها ملقباً (الكيدار) فقالت فيه:
(الله ينعل الكيدار  من يوماً غنيناه ما برم).
في بداية الثلاثينيات كانت ليبيا بلداً فقيراً والناس في ضائقة من العيش ، ولا بلاد تستقبل العائدين من المعتقلات الفاشستية ، وكان الفقر يضرب أطنابه وصاحبتنا تقدمت بها السنون فأصبحت شبه عاجزة، دخل عليها أحد أبنائها وهو عبدالقويبوحسن وكان شاعراً فحلاً وله حوارات معها لا يتسع المجال لذكرها ، دخل عليها فوجدها في حالة بائسة ، فقال لها:

سبحانه اللِّي تم حالك زهيد
– ولبس الجديـــــــــــــــد
انسيتيه والجهد مو شديد
سبحانه اللِّي تم مالك بهايم
– ايعوض الدايـــــــــــــــــــم
ياعزوة الضيف لا تم حايـــــــم
يجيه العشا زين والسمن عايم
– وعزمك شـــــــــــــــــــــــديد
وضيفك القي ع العشا ما يْريد.

ويسدل الستار على حياة امرأة ليست كالنساء، تحدَّثت فأفحمت محدثها ، شعرت فأبدعت ، نطقت بالحكمة وقارعت الرجال بعقلها الفذ،

 إنها كما قال عنها أحد المثقفين، خنساء البطنان.
تميَّزت برجاحة العقل والردود الذكيَّة على كبار القوم، قالت الشعر والأراجيز وأغاني العلم ذات المواقف الاجتماعية، تسابق على الزواج منها كبار القوم وتقدم لخطبتها أحد الباشاوات الأتراك، لكن والدها رفض، إنها أميرة تتألق بين بنات القبيلة، تحرض على الجهاد وتناقش الرجال بعفة وكبرياء لا تخلو من التغنج.
إنها أنموذج المرأة اللِّيبية، وحياتها في الفترة التي عاشت فيها والتي كانت تمتد بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر وثلاثينيات القرن العشرين.
ـــــــــــــ
 (1) بمعنى الشراء.
(2) أي به حشرة تسمَّى الدهيمة وتكثر في الحبوب والدقيق وعلى الأرجح هي الأرضة.
(3) العدد 15 من صحيفة المأثور الشعبي.

(4) العدد 12.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق