إضاءات حول أدب المصراتى - أصابع المطر

أصابع المطر

مدونة الأديبة الليبية : نورا إبراهيم

الاثنين، 1 يونيو 2015

إضاءات حول أدب المصراتى

ـ لعلَّ منَ الجميلِ أَنْ نحتفيَ بمبدعينا الكبارِ ، وَأَنْ نَفِيَهُمَ حقَّهُم منَ التبجيلِ والإكبارِ ؛ فلقد قاسوا الكثيرَ منَ المتاعبِ ،والمصاعبِ حتى شقَّوا لنا درباً سالكاً للإبداعِ ، فلمعوا في سماءِ الأدبِ شموساً ،وأقماراً ، وشيخُ الأدباءِ الجليلُ علي مصطفى المصراتي؛ هو إحدى القاماتِ الأدبيَّةِ السامقةِ ؛ قامةٍ شامخَةٍ من شوامخِ الإبداعِ الليبيِّ الواثقِ بخطواتِ روَّادِهِ ،ومبدعيهِ ..

،وما أعظمَ الحاجةَ إلى أدبٍ رفيعٍ ؛ أدبٍ يُلامسَ همومَ الناسِ ،ويعالجُ قضاياهم ، وأدبِ الأستاذِ المصراتي أدبٌ ملتزمٌ بقضايا مجتمعِهِ ؛ فهو يسعى إلى تلمُّسِ مواضعِ الوجعِ فيه بمبضعِ الجرَّاحِ المتمكِّن بسخريَّةٍ محبَّبةٍ ، وكلماتٍ عذبَةٍ ، وجملٍ مُنتقَاةٍ بذكاءٍ ؛ فعطاءُ المصراتي الإبداعيُّ الغزيرُ لم يتوقَّفْ عندَ حدَّ ؛ بل ظلًَّ يغدقُ علينا من إبداعاتِهِ الراقيَةِ ، ويجودُ بطريقتِهِ الفنيَّةِ المتميِّزةِ الرائعَةِ بأسلوبِهِ المتقنِ لصناعَةِ الكلمَةِ التي تهزُّ أوتارَ القلوبِ فتهتزُّ لها الذاتُ الإنسانيَّةٌ استجابَةً وانبهاراً ، وهو يحرِّكُ أصابعَهُ بتلوينٍ رائعٍ بألوانِ قوسِ قزحٍ ؛ معتمداً على مفرداتٍ بسيطةٍ جميلَةٍ تدخلُكَ إلى فضاءاتٍ سحرِ الكلمَةِ ، فالمصراتي قدرةٌ  إبداعيَّةٌ هائلة لا يختلفُ عليها اثنان ؛ إذ يتمتَّعُ بقدرةٍ إبداعيةٍ عاليةٍ جداً لا تليقُ بسواهُ ؛ وتكمنُ هذه المقدرة في تميُّزهِ بلغةٍ إبداعيَّةٍ غنيَّةٍ ؛ تتحرُّك في حدودِهَا البلاغيَّةِ مرتكزةً على عبقريَّةِ صاحبِها الفذَّةِ ، وأسلوبِهِ السَّاخِرِ ، ومعرفتِهِ المتجدِّدةِ والمتطوِّرَةِ التي لا حدودَ لها .
"... والواضحُ أنَّ تكوينَهُ العلميَّ ؛ من خلالِ دراستِهِ الدينيَّةِ الأزهريَّةِ قد أسهمَتْ كثيراً في ثرائِهِ اللغويِّ ، وتكوينِ قاموسِهِ اللفظيِّ الزاخرِ والمتجدِّدِ .
-        كما أنَّ إِلْمَامَهُ بالأدبِ الشعبيِّ منحَهُ قدرةً على التعبيرِ بلغَةِ الناسِ دونَ تكلَّفٍ ، مكثراً من أمثالِهِم ،وتعابيرِهم الشعبيَّةِ في قصصِهِ القصيرةِ والطويلَةِ ، ومن خلالِ مؤلَّفَاتِهِ التراثيَّةِ الأخرى .. ".[1]  ورجلٌ بهذهِ المقدرةِ ، وتنوِّع ِالعطاءِ يحتاجُ منا إلى إعادةِ تدارسِ إبداعِهِ للوقوفِ على ما فيها من أدبٍ رفيعٍ ، ولنطرحَهُ أمامَ الناشئةِ واضحاً ؛ لعلَّ هذا الجيلَ يحتذي بعميدِ الأدبِ والثقافَةِ الليبيَّةِ الأستاذِ الكبير علي مصطفي المصراتي .
وتكريمُ المبدعينَ ـ بلا أدنى شكٍّ ـ  كما يتبادَرُ إلى أذهانِنَا يأتي من صميمِ الاعترافِ والإشادَةِ ؛ بدورِ الروَّادِ ، وإكبارِ جهودِهِم القيِّمَةِ في خدمَةِ المشهدِ الثقافيِّ المحلِّيِّ ؛ لكنَّهُ ـ في الحقيقةِ ـ فرصةٌ سانحةٌ لنا كمثقفينَ ،وأدباءَ للاحتفاءِ برجلٍ مسكونٍ بحبِّ الوطنِ ؛ فبذلَ جلَّ وقتِهِ لخدمَتِهِ ؛ فَعكفَ على إنتاجِ أدبٍ خصبٍ جميلٍ رائعِ الأسلوبِ ، وانكبَّ على إبداعِ أعمالٍ أدبيَّةٍ متنوِّعَةٍ تدعو إلى الإعجابِ والدهشةِ ، وقد وفِّقَ فيها توفيقاً باهراًً ؛ فبرزَ تفرُّدَهُ كعبقريَّةٍ أدبيَّةٍ ؛ فلغتُهُ الأدبيَّةُ المجرَّدَةُ منَ الغلوِّ، والتفخيمِ، والزركشَةِ كما في مجموعتِهِ القصصيَّةِ الرائعةِ ( خمسونَ قصة قصيرة )  .
الأستاذُ المبدعُ علي مصطفي المصراتي يعتبرُ من روَّادِ القصَّةِ القصيرةِ في ليبيا شكلاً ومضموناً ؛  ففي المضمونِ عالجَ ،وطرحَ كثيراً من القضايا السياسيَّةِ، والاجتماعيَّةِ المختلفةِ ، ولقد استطاعَ بجدارةٍ إلى أن يصلَ إلى أبعادِ أخرى فالتقطَ خيوطَ الواقعِ ،ونسجَهَا قصصاً تُلامسُ شِغَافَ الواقعِ ، وتمسُّ همومَ الوطنِ، والمواطنِ ، هو بحقٍّ مبدعٌ يبوحُ بما اختزلَهُ من أحاسيسَ أدبيَّةٍ راقيةٍ تعطيهِ شرعيَّةَ الانتماءِ لكبارِ القصَّاصينَ المتميِّزينَ .
قال الشاعرُ، والناقدُ اللبنانيُّ محمد علي شمس الدين عن عالمِ المصراتي القصصيِّ في مجموعتِهِ ( خمسون قصَّة قصيرة )  " إِنَّه لم يعطِ مجموعتَهُ القصصيَّةَ عنواناً موحَّداً ؛ بل جعلَ عنوانَهَا
( خمسون قصة قصيرة ) هو استنتاجٌ ظاهريٌّ ، كما قد يستنتجُ في المضمون وفي الدلالة ؛ كما أنه ليس لهذه القصصِ الخمسين عنوانٌ محوريٌّ  يلمُّ أجزاءَهَا حولَهُ ، ويسلكُ حبَّاتَهَا في خيطِهَ .. ،ويكونُ بمثابةِ العمودِ الفقريِّ للجسمِ يلتمُّ حولَهُ اللحمَ والدمَ ،والعصبَ ؛ بيدَ أن القارئ للقصصِ تتكوَّنَ لديه ـ تباعاً ـ من عالمِ القصصِ ،وأشخاصِها ،وعقدِها ،وموضوعاتِها ؛ قناعةٌ أخرى ؛ بإمكانيةِ إعطاءِ محورٍ واحدٍ للقصصِ المتنوِّعَةِ في أزمنةِ كتابتِها .. ،وأنَّ هذهَ القصصَ تشبهُ مراحلَ حياةِ الإنسانِ الذي يبقى محافظاً على ( هويَّتِهِ) و(ذاتِهِ) على الرغمِ من تعاقبِ مراحلِ حياتِهِ .. ،وكمرورِ الليلِ ،والنهارِ على جسدِهِ، ونفسِهِ أيضاً .
،ولعلَّ أولّ ما يلفتُ الانتباهَ ؛ في الأقاصيصِ ؛ على تنوِّعِهَا ومراحلِها ؛ هو أن اهتمامَها هو اهتمامٌ شعبيٌّ ؛ في جميعِ الأحوالِ ، ونعني بذلكَ أنَّ شخصياتِها شعبيَّةٌ ، ومستلَّةٌ منَ الشارعِ اليوميِّ العاديِّ للناسِ ، وهي بالتالي ليست شخصياتٍ (منتخبَةً ) ذاتَ بريقٍ فكريٍّ أو اجتماعيٍّ أو اقتصاديٍّ ؛ بل هي شخصيَّاتٌ مأخوذةٌ منِ الحيِّ والمدرسةِ أو المقهى أو من الريفِ .. ومن زوايا البيوتِ المحرمةِ بعاداتِها الاجتماعيَّةِ الشعبيَّةِ، وأفكارَها ،وتقاليدِهَا " [2]
، وهذه شهادةٌ تدلُّ على تميُّزِهِ ،وتفرُّدِهِ .

-        كما أنَّ أدبّهُ منارةٌ لكلِّ من يريدُ أن يعرفَ شيئاً عن ليبيا ؛ من تاريخٍ ونضالٍ ، وعاداتٍ ،وتقاليدَ  ،وأمثالٍ ،وتعابيرَ ، نوادرَ ،وهمومِ وقضايا الناس بها.
المصراتي يسعى دائماً إلى التجديدِ سعياً يعجزُ الآخرينَ عن مجاراته، ومحاكاته، وتقليده في أسلوبِهِ ،وتعابيرِهِ الشعبيَّةِ الخصبَة من خلال نصوصٍ ،ووثائقَ، وشواهِدَ في الأسطورة الشعبيَّة ؛ أو من خلال ،والبحث عنِ الحقيقةِ كما هو الحال في كتابِهِ ( غومة فارس الصحراء ) في ذاكرةِ الكفاح الليبيِّ .
-        فقد حرص المصراتي على أن يستخلصَ صورةً صادقةً ؛ فوضعَ خطاً فاصلاً، ودقيقاً بينَ الأسطورةِ ،والحقيقةِ على أساس بحث علميٍّ قوامُهُ الترجمَة الذاتيَّةِ للقصَّةِ، والإشاراتِ العميقَةِ ، وأفكاره المحبوكة إلى أبعد الحدود التي تجدُ طريقَها إلى القلوبِ بخطواتٍ ثابتةٍ ، ليبعثَ فينا الإحساسَ الساحرَ ، هذا الشيخُ الناسك في محراب الأدب، والأدباء .
،وممَّا يزكي أدبَ المصراتي، وإبداعه أن قدَّمَ له طه حسين عميدُ الأدبِ العربي ؛ فقد لمسَ فيه من خلال كتابِهِ ( قطراتٌ من يراع ) أنَّ المصراتي يميلُ إلى التحرِّر من جمودِ التقليدِ ؛ يميلُ إلى التجديد ، واكتشف حرصَهُ على الإيتاءِ بما ينفعُ من روحِ التراثِ العربيِّ القديمِ ، فضلاً عن إجادتهِ لاختيار اللفظ المشرق المؤثِّر ، وانتقاءِ الكلامِ الجميل المعبِّر ،والملاءمة بين الكلم المتميِّز ، والمعنى المستقصى ؛ إلى رصانةٍ في الأسلوبِ ، ومتانةٍ في النظمِ وصدقٍ في اللهجةِ ، وإرسالٍ للعاطفَةِ الإنسانيَّةِ على سجيَّتها يُشيعُ في الكلامِ حرارةً حلوةً ، وإخلاصاً مستحبّاً.



[1]ـ جمعة الفاخري ـ السخرية في أدب المصراتي ، قصة الوفد أنموذجاً .
[2]ـ  محمد علي شمس الدين ، مجلة المجال العدد التاسع 2006 أفرنجي .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق