ـ لعلَّ منَ الجميلِ أَنْ نحتفيَ بمبدعينا الكبارِ ، وَأَنْ
نَفِيَهُمَ حقَّهُم منَ التبجيلِ والإكبارِ ؛ فلقد قاسوا الكثيرَ منَ المتاعبِ ،والمصاعبِ
حتى شقَّوا لنا درباً سالكاً للإبداعِ ، فلمعوا في سماءِ الأدبِ شموساً ،وأقماراً
، وشيخُ الأدباءِ الجليلُ علي مصطفى المصراتي؛ هو إحدى القاماتِ الأدبيَّةِ
السامقةِ ؛ قامةٍ شامخَةٍ من شوامخِ الإبداعِ الليبيِّ الواثقِ بخطواتِ روَّادِهِ ،ومبدعيهِ
..
،وما أعظمَ الحاجةَ إلى أدبٍ رفيعٍ ؛ أدبٍ يُلامسَ همومَ الناسِ ،ويعالجُ
قضاياهم ، وأدبِ الأستاذِ المصراتي أدبٌ ملتزمٌ بقضايا مجتمعِهِ ؛ فهو يسعى إلى
تلمُّسِ مواضعِ الوجعِ فيه بمبضعِ الجرَّاحِ المتمكِّن بسخريَّةٍ محبَّبةٍ ،
وكلماتٍ عذبَةٍ ، وجملٍ مُنتقَاةٍ بذكاءٍ ؛ فعطاءُ المصراتي الإبداعيُّ الغزيرُ لم
يتوقَّفْ عندَ حدَّ ؛ بل ظلًَّ يغدقُ علينا من إبداعاتِهِ الراقيَةِ ، ويجودُ
بطريقتِهِ الفنيَّةِ المتميِّزةِ الرائعَةِ بأسلوبِهِ المتقنِ لصناعَةِ الكلمَةِ
التي تهزُّ أوتارَ القلوبِ فتهتزُّ لها الذاتُ الإنسانيَّةٌ استجابَةً وانبهاراً ،
وهو يحرِّكُ أصابعَهُ بتلوينٍ رائعٍ بألوانِ قوسِ قزحٍ ؛ معتمداً على مفرداتٍ
بسيطةٍ جميلَةٍ تدخلُكَ إلى فضاءاتٍ سحرِ الكلمَةِ ، فالمصراتي قدرةٌ إبداعيَّةٌ هائلة لا يختلفُ عليها اثنان ؛ إذ
يتمتَّعُ بقدرةٍ إبداعيةٍ عاليةٍ جداً لا تليقُ بسواهُ ؛ وتكمنُ هذه المقدرة في
تميُّزهِ بلغةٍ إبداعيَّةٍ غنيَّةٍ ؛ تتحرُّك في حدودِهَا البلاغيَّةِ مرتكزةً على
عبقريَّةِ صاحبِها الفذَّةِ ، وأسلوبِهِ السَّاخِرِ ، ومعرفتِهِ المتجدِّدةِ
والمتطوِّرَةِ التي لا حدودَ لها .
"... والواضحُ أنَّ تكوينَهُ العلميَّ ؛ من خلالِ دراستِهِ
الدينيَّةِ الأزهريَّةِ قد أسهمَتْ كثيراً في ثرائِهِ اللغويِّ ، وتكوينِ قاموسِهِ
اللفظيِّ الزاخرِ والمتجدِّدِ .
-
كما أنَّ إِلْمَامَهُ بالأدبِ الشعبيِّ منحَهُ قدرةً على التعبيرِ
بلغَةِ الناسِ دونَ تكلَّفٍ ، مكثراً من أمثالِهِم ،وتعابيرِهم الشعبيَّةِ في
قصصِهِ القصيرةِ والطويلَةِ ، ومن خلالِ مؤلَّفَاتِهِ التراثيَّةِ الأخرى ..
".[1] ورجلٌ بهذهِ المقدرةِ ، وتنوِّع ِالعطاءِ يحتاجُ
منا إلى إعادةِ تدارسِ إبداعِهِ للوقوفِ على ما فيها من أدبٍ رفيعٍ ، ولنطرحَهُ
أمامَ الناشئةِ واضحاً ؛ لعلَّ هذا الجيلَ يحتذي بعميدِ الأدبِ والثقافَةِ
الليبيَّةِ الأستاذِ الكبير علي مصطفي المصراتي .
وتكريمُ المبدعينَ ـ بلا أدنى شكٍّ ـ
كما يتبادَرُ إلى أذهانِنَا يأتي من صميمِ الاعترافِ والإشادَةِ ؛ بدورِ
الروَّادِ ، وإكبارِ جهودِهِم القيِّمَةِ في خدمَةِ المشهدِ الثقافيِّ المحلِّيِّ
؛ لكنَّهُ ـ في الحقيقةِ ـ فرصةٌ سانحةٌ لنا كمثقفينَ ،وأدباءَ للاحتفاءِ برجلٍ
مسكونٍ بحبِّ الوطنِ ؛ فبذلَ جلَّ وقتِهِ لخدمَتِهِ ؛ فَعكفَ على إنتاجِ أدبٍ خصبٍ
جميلٍ رائعِ الأسلوبِ ، وانكبَّ على إبداعِ أعمالٍ أدبيَّةٍ متنوِّعَةٍ تدعو إلى
الإعجابِ والدهشةِ ، وقد وفِّقَ فيها توفيقاً باهراًً ؛ فبرزَ تفرُّدَهُ
كعبقريَّةٍ أدبيَّةٍ ؛ فلغتُهُ الأدبيَّةُ المجرَّدَةُ منَ الغلوِّ، والتفخيمِ،
والزركشَةِ كما في مجموعتِهِ القصصيَّةِ الرائعةِ ( خمسونَ قصة قصيرة ) .
الأستاذُ المبدعُ علي مصطفي المصراتي يعتبرُ من روَّادِ القصَّةِ
القصيرةِ في ليبيا شكلاً ومضموناً ؛ ففي
المضمونِ عالجَ ،وطرحَ كثيراً من القضايا السياسيَّةِ، والاجتماعيَّةِ المختلفةِ ،
ولقد استطاعَ بجدارةٍ إلى أن يصلَ إلى أبعادِ أخرى فالتقطَ خيوطَ الواقعِ ،ونسجَهَا
قصصاً تُلامسُ شِغَافَ الواقعِ ، وتمسُّ همومَ الوطنِ، والمواطنِ ، هو بحقٍّ مبدعٌ
يبوحُ بما اختزلَهُ من أحاسيسَ أدبيَّةٍ راقيةٍ تعطيهِ شرعيَّةَ الانتماءِ لكبارِ
القصَّاصينَ المتميِّزينَ .
قال الشاعرُ، والناقدُ اللبنانيُّ محمد علي شمس الدين عن عالمِ
المصراتي القصصيِّ في مجموعتِهِ ( خمسون قصَّة قصيرة ) " إِنَّه لم يعطِ مجموعتَهُ القصصيَّةَ
عنواناً موحَّداً ؛ بل جعلَ عنوانَهَا
( خمسون قصة قصيرة ) هو استنتاجٌ ظاهريٌّ ، كما قد يستنتجُ في المضمون
وفي الدلالة ؛ كما أنه ليس لهذه القصصِ الخمسين عنوانٌ محوريٌّ يلمُّ أجزاءَهَا حولَهُ ، ويسلكُ حبَّاتَهَا في
خيطِهَ .. ،ويكونُ بمثابةِ العمودِ الفقريِّ للجسمِ يلتمُّ حولَهُ اللحمَ والدمَ ،والعصبَ
؛ بيدَ أن القارئ للقصصِ تتكوَّنَ لديه ـ تباعاً ـ من عالمِ القصصِ ،وأشخاصِها ،وعقدِها
،وموضوعاتِها ؛ قناعةٌ أخرى ؛ بإمكانيةِ إعطاءِ محورٍ واحدٍ للقصصِ المتنوِّعَةِ
في أزمنةِ كتابتِها .. ،وأنَّ هذهَ القصصَ تشبهُ مراحلَ حياةِ الإنسانِ الذي يبقى
محافظاً على ( هويَّتِهِ) و(ذاتِهِ) على الرغمِ من تعاقبِ مراحلِ حياتِهِ .. ،وكمرورِ
الليلِ ،والنهارِ على جسدِهِ، ونفسِهِ أيضاً .
،ولعلَّ أولّ ما يلفتُ الانتباهَ ؛ في الأقاصيصِ ؛ على تنوِّعِهَا
ومراحلِها ؛ هو أن اهتمامَها هو اهتمامٌ شعبيٌّ ؛ في جميعِ الأحوالِ ، ونعني بذلكَ
أنَّ شخصياتِها شعبيَّةٌ ، ومستلَّةٌ منَ الشارعِ اليوميِّ العاديِّ للناسِ ، وهي
بالتالي ليست شخصياتٍ (منتخبَةً ) ذاتَ بريقٍ فكريٍّ أو اجتماعيٍّ أو اقتصاديٍّ ؛
بل هي شخصيَّاتٌ مأخوذةٌ منِ الحيِّ والمدرسةِ أو المقهى أو من الريفِ .. ومن
زوايا البيوتِ المحرمةِ بعاداتِها الاجتماعيَّةِ الشعبيَّةِ، وأفكارَها ،وتقاليدِهَا
" [2]
، وهذه شهادةٌ تدلُّ على تميُّزِهِ ،وتفرُّدِهِ .
-
كما أنَّ أدبّهُ منارةٌ لكلِّ من يريدُ أن يعرفَ شيئاً عن ليبيا ؛ من
تاريخٍ ونضالٍ ، وعاداتٍ ،وتقاليدَ ،وأمثالٍ
،وتعابيرَ ، نوادرَ ،وهمومِ وقضايا الناس بها.
المصراتي يسعى دائماً إلى التجديدِ سعياً يعجزُ الآخرينَ عن مجاراته،
ومحاكاته، وتقليده في أسلوبِهِ ،وتعابيرِهِ الشعبيَّةِ الخصبَة من خلال نصوصٍ ،ووثائقَ،
وشواهِدَ في الأسطورة الشعبيَّة ؛ أو من خلال ،والبحث عنِ الحقيقةِ كما هو الحال
في كتابِهِ ( غومة فارس الصحراء ) في ذاكرةِ الكفاح الليبيِّ .
-
فقد حرص المصراتي على أن يستخلصَ صورةً صادقةً ؛ فوضعَ خطاً فاصلاً،
ودقيقاً بينَ الأسطورةِ ،والحقيقةِ على أساس بحث علميٍّ قوامُهُ الترجمَة
الذاتيَّةِ للقصَّةِ، والإشاراتِ العميقَةِ ، وأفكاره المحبوكة إلى أبعد الحدود
التي تجدُ طريقَها إلى القلوبِ بخطواتٍ ثابتةٍ ، ليبعثَ فينا الإحساسَ الساحرَ ،
هذا الشيخُ الناسك في محراب الأدب، والأدباء .
،وممَّا يزكي أدبَ المصراتي، وإبداعه أن قدَّمَ له طه حسين عميدُ
الأدبِ العربي ؛ فقد لمسَ فيه من خلال كتابِهِ ( قطراتٌ من يراع ) أنَّ المصراتي
يميلُ إلى التحرِّر من جمودِ التقليدِ ؛ يميلُ إلى التجديد ، واكتشف حرصَهُ على
الإيتاءِ بما ينفعُ من روحِ التراثِ العربيِّ القديمِ ، فضلاً عن إجادتهِ لاختيار
اللفظ المشرق المؤثِّر ، وانتقاءِ الكلامِ الجميل المعبِّر ،والملاءمة بين الكلم
المتميِّز ، والمعنى المستقصى ؛ إلى رصانةٍ في الأسلوبِ ، ومتانةٍ في النظمِ وصدقٍ
في اللهجةِ ، وإرسالٍ للعاطفَةِ الإنسانيَّةِ على سجيَّتها يُشيعُ في الكلامِ
حرارةً حلوةً ، وإخلاصاً مستحبّاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق